سورة إبراهيم - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)}
{وَمَا أَرْسَلْنَا} أي في الأمم الخالية من قبلك كما سيذكر إن شاء الله تعالى إجمالًا {مِن رَّسُولٍ إِلاَّ} متلبسًا {بِلِسَانِ قَوْمِهِ} متكلمًا بلغة من أرسل إليهم من الأمم المتفقة على لغة سواء بعث فيهم أولًا، وقيل: بلغة قومه الذين هو منهم وبعث فيهم، ولا ينتقض الحصر بلوط عليه السلام فإنه تزوج منهم وسكن معهم، وأما يونس عليه السلام فإنه من القوم الذين أرسل إليهم كما قالوه فلا حاجة إلى القول بأن ذلك باعتبار الأكثر الأغلب ولعل الأولى ما ذكرنا. وقرأ أبو السمال. وأبو الحوراء. وأبو عمران الجوني {بلسن} بإسكان السين على وزن ذكر وهي لغة في لسان كريش ورياش، وقال صاحب اللوامح: إنه خاص باللغة واللسان يطلق عليها وعلى الجارحة وإلى ذلك ذهب ابن عطية. وقرأ أبو رجاء. وأبو المتوكل. والجحدري {بلسن} بضم اللام والسين وهو جمع لسان كعماد وعمد. وقرئ {بلسن} بضم اللام وسكون السين وهو مخفف لسن كرسل ورسل {الله لِيُبَيّنَ} ذلك الرسول {لَهُمْ} لأولئك القوم الذين أرسل إليهم ما كلفوا به فيتلقوه منه بسهولة وسرعة فيمتثلوا ذلك من غير حاجة إلى الترجمة وحيث لم تتأت هذه القاعدة في شأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه المرسلين أجمعين لعموم بعثته وشموله رسالته الأسود والأحمر والجن والبشر على اختلاف لغاتهم وكان تعدد نظم الكتاب المنزل إليه صلى الله عليه وسلم عليه حسب تعدد ألسنة الأمم أدعى إلى التنازع واختلاف الكلمة وتطرق أيدي التحريف مع أن استقلال بعض من ذلك بالإعجاز مئنة لقدح القادحين، واتفاق الجميع فيه أمر قريب من الإلجاء المنافي للتكليف، وحصل البيان بالترجمة والتفسير اقتضت الحكمة المنبىء عن العزة وجلالة الشأن المستتبع لفوائد غنية عن البيان، على أن الحاجة إلى الترجمة تتضاعف عند التعدد إذ لابد لكل طائفة من معرفة توافق الكل حذو القذة بالقذة من غير مخالفة ولو في خصلة فذة، وإنما يتم ذلك ن يترجم عن الكل واحدًا أو متعددًا وفيه من التعذر ما فيه، ثم لما كان أشرف الأقوام وأولاهم بدعوته عليه الصلاة والسلام قومه الذين بعث بين ظهرانيهم ولغتهم أفضل اللغات نزل الكتاب المبين بلسان عربي مبين وانتشرت أحكامه بين الأمم أجمعين، كذا قرره شيخ الإسلام الإسلام والمسلمين وهو من الحسن كان، بيد أن بعضهم أبقى الكلام على عمومه بحيث يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وأراد بالقوم الذين ذلك الرسول منهم وبعث فيهم، والمراد من قومه صلى الله عليه وسلم العرب كلهم، ونقل ذلك أبو شامة في المرشد عن السجستاني واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم:
«انزل القرآن على سبعة أحرف» وفيه نظر ظاهر.
وقال ابن قتيبة: المراد منهم قريش ولم ينزل القرآن إلا بلغتهم، وقيل: إنما نزل بلغة مضر خاصة لقول عمر رضي الله تعالى عنه: نزل القرآن بلغة مضر، وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر سبعًا منهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسيد بن خزيمة وقريش، وأخرج أبو عبيد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: نزل بلغة الكعبين كعب قريش وكعب خزاعة فقيل: وكيف؟ فقال: لأن الدار واحدة يعني خزاعة كانوا جيران قريش فسهلت عليهم لغتهم؛ وجاء عن أبي صالح عنه أنه قال: نزل على سبع لغات منها خمس بلغة العجز من هوازن ويقال لهم عليا هوازن، ومن هنا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفى تميم يعني بني دارم، والذي يذهب مذهب السجستاني يقول: إن في القرآن ما نزل بلغة حمير. وكنانة. وجرهم. وأزد شنوءة. ومذحج. وخثعم. وقيس عيلان. وسعد العشيرة. وكندة. وعذرة. وحضرموت. وغسان. ومزينة. ولخم. وجذام. وحنيفة. واليمامة. وسبا. وسليم. وعمارة. وطي. وخزاعة. وعمان. وتميم. وأنمار. والأشعريين. والأوس. والخزرج. ومدين؛ وقد مثل لكل ذلك أبو القاسم، وذكر أبو بكر الواسطي أن في القرآن من اللغات خمسين لغة وسردها ممثلًا لها إلا أنه ذكر أن فيه من غير العربية الفرس والنبط والحبشة والبربر والسريانية والعبرانية والقبط، والذاهب إلى ما ذهب إليه ابن قتيبة يقول: إن ما نسب إلى غير قريش على تقدير صحة نسبته مما يوافق لغتهم، ونقل أبو شامة عن بعض الشيوخ أنه قال: إنه نزل أولًا بلسان قريش ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح لسائر العرب أن تقرأه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها كاختلافهم في الألفاظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغتهم إلى لغة أخرى للمشقة. ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل المراد، لكن أنت تعلم أن هذه الإباحة لم تستمر، وكون المتبادر من قومه عليه الصلاة والسلام قريشًا مما لا أظن أن أحدًا يمتري فيه ويليه في التبادر العرب. وفي البحر أن سبب نزول الآية أن قريشًا قالوا: ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي؟ وهذا إن صح ظاهر في العموم، ثم إنه لا يلزم من كون لغته لغة قريش أو العرب اختصاص بعثته صلى الله عليه وسلم بهم، وإن زعمت طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية اختصاص البعثة بالعرب لذلك، وحكمة إنزاله بلغتهم أظهر من أن تخفى، وقيل: الضمير في {قَوْمِهِ} لمحمد صلى الله عليه وسلم المعلوم من السياق فإنه كما أخرج ابن أبي عن سفيان الثوري لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه، وقيل: كان يترجم ذلك جبريل عليه السلام ونسب إلى الكلبي، وفيه أنه إذا لم يقع التبيين إلا بعد الترجمة فات الغرض مما ذكر، وضمير {لَهُمْ} للقوم بلا خلاف وهم المبين لهم بالترجمة.
وفي الكشاف أن ذلك ليس بصحيح لأن ضمير {لَهُمْ} للقوم وهم العرب فيؤدي إلى أن الله تعالى أنزل التوراة مثلًا بالعربية ليبين للعرب وهو معنى فاسد.
وتكلف الطيبي دفع ذلك بأن الضمير راجع إلى كل قوم بدلالة السياق، والجواب كما في الكشف أنه لا يدفع عن الإيهام على خلاف مقتضى المقام. واحتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توقيفية قال: لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل، وقد دلت الآية على أن إرسال كل من الرسل لا يكون إلا بلغة قومه وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسول، وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف فوجب حصولها بالاصطلاح انتهى.
وأجيب بأنا لا نسلم توقف التوقيف على إرسال الرسل لجواز أن يخلق الله تعالى في العقلاء علمًا بأن الألفاظ وضعها واضع لكذا وكذا، ولا يلزم من هذا كون العاقل عالمًا بالله تعالى بالضرورة بل الذي يلزم منه ذلك لو خلق سبحانه في العقلاء علمًا ضروريًا بأنه تعالى الواضع وأين هذا من ذاك، على أنه لا ضرر في التزام خلق الله تعالى هذا العلم الضروري وأي ضرر في كونه سبحانه معلوم الوجود بالضرورة لبعض العقلاء؟ والقول بأنه يبطل التكليف حينئذٍ على عمومه غير مسلم وعلى تخصيصه بالمعرفة مسلم وغير ضار {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاء} إضلاله أي يخلق فيه الضلال لوجود أسبابه المؤدية إليه فيه، وقيل: يخذله فلا يلطف به لما يعلم أنه لا ينجع فيه الإلطاف {وَيَهْدِى} يخلق الهداية أو يمنح الإلطاف {مَن يَشَآء} هدايته لما فيه من الأسباب المؤدية إلى ذلك، والالتفات بإسناد الفعلين إلى الاسم الجليل لتفخيم شأنهما وترشيح مناط كل منهما، والفاء قيل فصيحة مثلها في قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة: 60] كأنه قيل: فبينوه لهم فأضل الله تعالى من شاء إضلاله وهدى من شاء هدايته حسا اقتضته حكمته تعالى البالغة، والحذف للإيذان بأن مسارعة كل رسول إلى ما أمر به وجريان كل من الفعلين على سننه أمر محقق غني عن الذكر والبيان. وفي الكشف وجه التعقيب عن السابق كوجهه في قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] على معنى أرسلنا الكتاب للتبيين فمنهم من نفعناه بذلك البيان ومنهم من جعلناه حجة عليه، والفاء على هذا تفصيلية، والعدول إلى صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة أو الدلالة على التجدد والاستمرار حيث تجدد البيان من الرسل عليهم السلام المتعاقبة عليهم، وتقديم الإضلال على الهداية كما قال بعض المحققين إما لأنه إبقاء ما كان على ما كان والهداية إنشاء ما لم يكن أو للمبالغة في بيان أنه لا تأثير للتبيين والتذكير من قبل الرسل عليهم السلام وأن مدار الأمر إنما هو مشيئته تعالى بإيهام أن ترتيب الضلالة أسرع من ترتب الاهتداء، وهذا محقق لما سلف من تقييد الإخراج من الظلمات إلى النور بإذن ربهم {وَهُوَ العزيز} فلا يغالب في مشيئته تعالى: {الحكيم} فلا يشاء ما يشاء إلا لحكمة بالغة، وفيه كما في البحر وغيره أن ما فوض إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام إنما هو التبليغ وتبيين طريق الحق، وأما الهداية والإرشاد إليه فذلك بيد الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ثم إن هذه الآية ظاهرة في مذهب أهل السنة من أن الضلالة والهداية بخلقه سبحانه، وقد ذكر المعتزلة لها عدة تأويلات، وللإمام فيها كلام طويل إن أردته فارجع إليه.


{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)}
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى} شروع في تفصيل ما أجمل في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] الآية {بئاياتنا} أي ملتبسًا بها وهي كما أخرج ابن جرير. وغيره عن مجاهد. وعطاء. وعبيد بن عمير الآيات التسع التي أجراها الله تعالى على يده عليه السلام، وقيل: يجوز أن يراد بها آيات التوراة {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ} عنى أي أخرج فإن تفسيرية لأن في الإرسال معنى القول دون حروفه أو بأن أخرج فهي مصدرية حذف قبلها حرف الجر لأن أرسل يتعدى بالباء، والجار يطرد حذفه قبل أن وأن، واتصال المصدرية بالأمر أمر مر تحقيقه.
وزعم بعضهم أن {ءانٍ} هنا زائدة ولا يخفى ضعفه، والمراد من قومه عليه السلام كما هو الظاهر بنو إسرائيل ومن إخراجهم إخراجهم بعد مهلك فرعون {مِنَ الظلمات} من الكفر والجهالات التي كانوا فيها وأدت بهم إلى أن يقولوا: {قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ} [الأعراف: 138] {إِلَى النور} إلى الإيمان بالله تعالى وتوحيده وسائر ما أمروا به، وقيل: أخرجهم من ظلمات النقص إلى نور الكماب {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} أي بنعمائه وبلائه كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، واختاره الطبري لأنه الأنسب بالمقام والأوفق بما سيأتي إن شاء الله تعالى من الكلام، والعطف على {أَخْرَجَ} وجوز أن تكون الجملة مستأنفة، والالتفات من التكلم إلى الغيبة بإضافة الأيام إلى الاسم الجليل للإيذان بفخامة شأنها والإشعار على ما قيل بعدم اختصاص ما فيها من المعاملة بالمخاطب وقومه كما يوهمه الإضافة إلى ضمير المتكلم، وحاصل المعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد. وعن ابن عباس أيضًا. والربيع. ومقاتل. وابن زيد المراد بأيام الله وقائعه سبحانه ونقماته في الأمم الخالية، ومن ذلك أيام العرب لحروبها وملاحمها كيوم ذي قار. ويوم الفجار. ويوم قضة. وغيرها، واستظهره الزمخشري للغلبة العرفية وأن العرب استعملته للوقائع، وأنشد الطبرسي لذلك قول عمرو بن كلثوم:
وأيام لنا غرر طوال *** عصينا الملك فيها إن ندينا
وأنشده الشهاب للمعنى السابق، وأنشد لهذا قوله:
وأيامنا مشهورة في عدونا ***
وأخرج النسائي. وعبد الله بن حمد في زوائد المسند. والبيهقي في شعب الإيمان. وغيرهم عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الأيام في الآية بنعم الله تعالى وآلائه، وروى ذلك ابن المنذر عن ابن عباس. ومجاهد، وجعل أبو حيان من ذلك بيت عمرو، واوظهر فيه ما ذكره الطبرسي.
وأنت تعلم أنه إن صح الحديث فعليه الفتوى، لكن ذكر شيخ الإسلام في ترجيح التفسير المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أولًا على ما روي ثانيًا بأنه يرد الثاني ما تصدى له عليه السلام بصدد الامتثال من التذكير بكل من السراء والضراء مما جرى عليهم وعلى غيرهم حسا يتلى بعد، وهو يبعد صحة الحديث، والقول بأن النقم بالنسبة إلى قوم نعم بالنسبة إلى آخرين كما قيل:
مصائب قوم عند قوم فوائد ***
مما لا ينبغي أن يلتفت إليه عاقل في هذا المقام. نعم إن قوله تعالى: {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} [إبراهيم: 6] ظاهر في تفسير الأيام بالنعم وما يستدعي غير ذلك ستسمع فيه أقوالًا لا يستدعيه على بعضها.
وزعم بعضهم أن المراد من قومه عليه السلام القبط {وَرَسُولِهِ والنور} الكفر والإيمان لا غير، وقيل: قومه عليه السلام القبط. وبنو إسرائيل وكان عليه السلام مبعوثًا إليهم جميعًا إلا أنه بعث إلى القبط بالاعتراف بوحدانية الله تعالى وأن لا يشركوا به سبحانه شيئًا، وإلى بني إسرائيل بذلك وبالتكليف بفروع الشريعة.
وقيل: هم بنو إسرائيل فقط إلا أن المراد من {الظلمات والنور} إن كانوا كلهم مؤمنين ظلمات ذل العبودية ونور عزة الدين وظهور أمر الله تعالى، ونحن نقول: نسأل الله تعالى أن يخرجنا وأهل هذه الأقوال من ظلمات الجهل إلى نور العلم {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي ذي التذكير بأيام الله تعالى أو في الأيام {لاَيَاتٍ} عظيمة أو كثيرة دالة على وحدانية الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته، وهي على الأول الأيام، ومعنى كون التذكير ظرفًا لها كونه مناطًا لظهورها، وعلى الثاني كذلك أيضًا إلا أن كلمة {فِى} تجريدية أو هي عليه كل واحدة من النعماء والبلاء، والمشار إليه المجموع المشتمل عليها من حيث هو مجموع، وجوز أن يراد بالأيام فيما سبق أنفسها المنطوية على النعم والنقم، فإذا كانت الإشارة إليها وحملت الآيات على النعماء والبلاء فأمر الظرفية ظاهر {لّكُلّ صَبَّارٍ} كثير الصبر على بلائه تعالى: {شَكُورٍ} كثير الشكر لنعمائه عز وجل.
وقيل: المراد لكل مؤمن، فعلى الأول الوصفان عبارتان لمعنيين، وعلى هذا عبارة عن معنى واحد على طريق الكناية كحي مستوي القامة بادي البشرة في الكناية عن الإنسان، والتعبير عن المؤمن بذلك للإشعار بأن الصبر والشكر عنوان المؤمن الدال على ما في باطنه. والمراد على ما قيل لكل من يليق بكمال الصبر والشكر أو الإيمان ويصير أمره إلى ذلك لا لمن اتصف به بالفعل لأن الكلام تعليل للأمر بالتذكير المذكور السابق على التذكير المؤدي إلى تلك المرتبة، فإن من تذكر ما فاض أو نزل عليه أو على ما قبله من النعمة والنقمة وتنبه لعاقبة الصبر والشكر أو الإيمان لا يكاد يفارق ذلك وتخصيص الآيات بالصبار الشكور لأنه المنتفع بها لا لأنها خافية عن غيره فإن التبيين حاصل بالنسبة إلى الكل، وتقديم الصبر على الشكر لما أن الصبر مفتاح الفرج المقتضى للشكر، وقيل: لأنه من قبيل التروك يقال: صبرت الدابة إذا حبستها بلا علف والشكر ليس كذلك فإنه كما قال الراغب تصور النعمة وإظهارها، قيل: وهو مقلوب الكشر أي الكشف، وقيل: أصله من عين شكرى أي ممتلئة فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه، وهو على ثلاثة أضرب: شكر القلب.
وشكر اللسان. وشكر الجوارح، وذكر أن توفية شكر الله تعالى صعبة، ولذلك لم يثن سبحانه بالشكر على أحد من أوليائه إلا على اثنين نوح وإبراهيم عليهما السلام، وقد يكون انقسام الشكر على النعمة وعدم انقسام الصبر على النقمة وجهًا للتقديم والتأخير، وقيل: ذلك لتقدم متعلق الصبر أعني البلاء على متعلق الشكر أعني النعماء.


{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)}
{وَإِذْ قَالَ موسى} شروع في بيان تصديه عليه السلام لما أمر به من التذكير للإخراج المذكور {وَإِذْ} منصوب على المفعولية عند كثير ضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم، وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث لما مر غيره مرة أي اذكر لهم وقت قوله عليه السلام {لِقَوْمِهِ} الذين أمرناه بإخراجهم من الظلمات إلى النور {اذكروا نِعْمَةَ الله} تعالى الجليلة {عَلَيْكُمْ} وبدأ عليه السلام بالترغيب لأنه عند النفس أقبل وهي إليه أميل، وقيل: بدأ بهذا الأمر لما بينه وبين آخر الكلام السابق من مزيد الربط، ولا يخفى أن هذا إنما هو على تقدير أن يكون عليه السلام مأمورًا بالترغيب والترهيب، أما إذا كان مأمورًا بالترغيب فقط فلا سؤال، والظرف متعلق بنفس النعمة إن جعلت مصدرًا عنى الإنعام أو حذوف وقع حالًا منها إن جعلت اسمًا أي اذكروا إنعامه عليكم أو نعمته كائنة عليكم، و{إِذْ} في قوله سبحانه: {إِذْ نجيناكم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ} يجوز أن يتعلق بالنعمة أيضًا على تقدير جعلها مصدرًا أي اذكروا إنعامه عليكم وقت إنجائكم، ويجوز أن يتعلق بكلمة {عَلَيْكُمْ} إذا كانت حالًا لا ظرفًا لغوًا للنعمة لأن الظرف المستقر لنيابته عن عامله يجوز أن يعمل عمله أو هو على هذا معمول لمتعلقه كأنه قيل: اذكروا نعمة الله تعالى مستقرة عليكم وقت إنجائكم، ويجوز أن يكون بدل اشتمال من نعمة الله مرادًا بها الإنعام أو العطية المنعم بها {يَسُومُونَكُمْ} يبغونكم من سامه خسفًا إذا أولاه ظلمًا، وأصل السوم كما قال الراغب الذهاب في طلب الشيء فهو لفظ لمعنى مركب من الذهاب والطلب فأجرى مجرى الذهاب في قولهم: سامت الإبل فهي سائمة، ومجرى الطلب في قولهم: سمته كذا {سُوء العذاب} مفعول ثاني ليسومونكم والسوء مصدر ساء يسوء، والمراد جنس العذاب السيء أو استعبادهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة والاستهانة بهم وغير ذلك.
وفي «أنوار التنزيل» أن المراد بالعذاب هاهنا غير المراد به في سورة البقرة والأعراف لأنه مفسر بالتذبيح والتقتيل ثم ومعطوف عليه التذبيح المفاد بقوله تعالى: {وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} ههنا، وفيه إشارة إلى وجه العطف وتركه مع أن القصة واحدة، وحاصل ذلك أنه حيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال وحيث عطف لم يقصد ذلك، والعذاب إن كان المراد به الجنس فالتذبيح لكونه أشد أنواعه عطف عليه عطف جبريل على الملائكة عليهم السلام تنبيهًا على أنه لشدته كأنه ليس من ذلك الجنس، وإن كان المراد به غيره كالاستعباد فهما متغايران والمحل محل العطف، وقد جوز أهل المعاني أن يكونا عنى في الجميع وذكر الثاني للتفسير، وترك العطف في السورتين ظاهر والعطف هنا لعد التفسير لكونه أوفى بالمراد وأظهر منزلة المغاير وهو وجه حسن أيضًا، وسبب هذا التذبيح أن فرعون رأى في المنام أو قال له الكهنة.
أنه سيولد لبني إسرائيل من يذهب لكه فاجتهدوا في ذلك فلم يغن عنهم من قضاء الله تعالى شيئًا. وقرأ ابن محيصن {وَيُذَبّحُونَ} مضارع ذبح ثلاثيًا. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذلك إلا أنه حذف الواو {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} أي يبقونهن في الحياة مع الذل، ولذلك عد من جملة البلاء أو لأن إبقاءهن دون البنين رزية في نفسه كما قيل:
ومن أعظم الرزي فيما أرى *** بقاء البنات وموت البنينا
والجمل أحوال من آل فرعون أو من ضمير المخاطبين أو منهما جميعًا لأن فيها ضمير كل منهما، ولا اختلاف في العامل لأنه وإن كان في آل فرعون من في الظاهر لكنه لفظ {أَنجَاكُمْ} في الحقيقة، والاقتصار على الاحتمالين الأولين هنا وتجويز الثلاثة في سورة البقرة كما فعل البيضاوي بيض الله تعالى غرة أحواله لا يظهر وجهه.
{وَفِى ذلكم} أي فيما ذكرنا من الأفعال الفظيعة {بَلاء مِّن رَّبّكُمْ} أي ابتلاء منه تعالى لأن البلاء عين تلك الأفعال اللهم إلا أن تجعل {فِى} تجريدية فنسبته إلى الله تعالى إما من حيث الخلق وهو الظاهر أو الإقدار والتمكين، ويجوز أن يكون المشار إليه الإنجاء من ذلك والبلاء الابتلاء بالنعمة فإنه يكون بها كما يكون بالمحنة قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] وقال زهير:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم *** فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
وهو الأنسب بصدر الآية، ويلوح إليه التعرض لوصف الربوبية، وعلى الأول يكون ذلك باعتبار المآل الذي هو الإنجاء أو باعتبار أن بلاء المؤمن تربية له ونفع في الحقيقة {عظِيمٌ} لا يطلق حمله أو عظيم الشأن جليل القدر.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8